- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قيل للإمام عليٍّ كرم الله وجهه ، يا إمام صف لنا ربك .
فقال الإمام عليٌ كرم الله وجهه :
سبحان ربي ! لا يُدرك بالحواس ، ولا يقاس بالقياس ، فوق كل شيء ، وليس تحته شيء ، وهو في كل شيء ، لا كشيءٍ في شيء ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . يا من تنزَّهت عن الشرك ذاتك ، وتقدَّست عن مشابهة الأغيار صفاتك ، بالبرِّ معروف ، وبالإحسان موصوف ، معروفٌ بلا غاية ، وموصوفٌ بلا نهاية .
الغاية من العبادات :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أصل الدين معرفة الله سبحانه وتعالى ، بمناسبة قرب شهر رمضان المبارك ، وهي عبادةٌ مِن العبادات الإسلامية الأساسية ، أود أن أبيِّن لكم أن العبادات في الإسلام ليست كغيرها مِن الأديان ، ليست العبادات في الإسلام طقوساً ، إنما هي أوامر معللةٌ في خدمة هدفٍ واحد .
الغاية من الصلاة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى جلَّ في علاه :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾
الصلاة عبادة ..
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾
هذه غايتها ، هذه علَّتها ، فما لم تحصل الغاية ، لا قيمة للأداء في شيء ..
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾
نهياً ذاتياً ..
﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
أي ولذكر الله أكبر ما في الصلاة ؛ أن تقف قائماً ، وأن تركع مطمئناً ، وأن تسجد مباعداً بين إبطيك ، هذه حركاتٌ يجب أن تؤدّيها ، والقراءات يجب أن تقرأها ، والفرائض يجب أن تكون ، والسنن ، والمستحبات ، ولكن أفضل ما في الصلاة ذكر الله ، ذكر الله في الصلاة ..
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
فهل الصلاة عبادةٌ جَوْفاء ؟
هل الصلاة عبادةٌ تؤدَّى مِن دون هدف ؟
مِن دون ثمرة تقطفها ؟
مِن دون علةٍ كافيةٍ لوجوبها ؟
الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي يقول :
(( ليس كل مصلٍ يصلي ، إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ...))
فكَّر في هذا الكون ، فعرف عظمة الله عزَّ وجل .
(( وكفَّ شهواته عن محارمي ... ))
استقام على أمري ، فكر في الكون واستقام على أمر الله ..
(( ولم يصر على معصيتي ))
كثير التوبة .
(( ولم يستطل على خلقي ))
بالتعالي والكبر .
(( وأطعم الجائع ))
العمل الصالح .
(( وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب ، وقطع النهار في ذكري ))
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ إن ما جعل المسلمين يتأخّرون أنهم فهموا الصلاة عبادةً جوفاء ..
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
أضـاعوهـا ، أضـاعوا جوهرهـا ، هم يصـلون ولكنهم أضـاعوا جوهرهـا ، جوهرها ذِكر الله ، ولذكر الله أكبر ما فيها ، ولذكر الله أكبر ما في الصـلاة ، هذه عبادة ، فهل هي عبادةٌ جوفاء ؟ .
الغاية من الزكاة .
الزكاة ، ليست أيها الإخوة الزكاة ضريبةً تؤدَّى ، اسمعوا إلى قول الله عزَّ وجل :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾
هذه علَّة الزكاة ، هذا هدف الزكاة ..
﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام وسَّع مفهوم الصدقة ، قد يتبادر إلى أحدكم أن معنى الصدقة حصراً : أن تخرج مِن جيبك مالاً وتدفعه إلى فقير . النبي عليه الصلاة والسلام وسَّع مفهوم الصدقة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( تبسُّمك في وجه أخيك صدقة ـ أن تلقاه بوجهٍ طلق ـ أمرك بالمعروف ، ونهيك عن المنكر صدقة ، إرشادك الرجل في أرض الضلال هو لك صدقة ، إماطتك الأذى ، والشوك ، والعظم عن الطريق لك صدقة ، إفراغك دلوك في دلو أخيك لك صدقة ، بصرك للرجل رديء البصر هو لك صدقة ))
فالصدقة لا تعني دفع المال فحسب ، وإنما تعني كل عملٍ صالح ، كل عملٍ فيه خدمةٌ للمسلمين ، ولغير المسلمين ، ولخَلْق الله أجمعين .
فهل الزكاة مجرَّد مالٍ يدفع للفقراء ؟ لا والله :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
الغاية من الصيام .
الصيام ، ونحن على أبوابه ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
علَّته التقوى ، هدفه التقوى ، مِن أجل التقوى ، مِن أجل أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً ، مِن أجل أن تملك رؤيةً صحيحة ، مِن أجل أن تفعل ما هو صواب ، مِن أجل أن تترك ما هو خطأ ، فهل الصيام ترك الطعام والشراب ؟ إن الله جلَّ في علاه غنيٌ عن عبادةٍ تبدأ بترك الطعام وتنتهي بتناوله ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري :
(( مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه ))
وقال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو ، والرفث ، فإن سابّك أحدٌ أو جهل عليك فقل : إني صائم ))
الغاية من الصيام .
والحج ، يا أيها الإخوة المؤمنون :
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
الهدف من هذه العبادات .
الصلاة والصيام والزكاة والحج ، وهذه أركان الإسلام كلها معللةٌ في كتاب الله :
مِن أجل مكارم الأخلاق ، مِن أجل السمو بالنفس ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام ملخِّصاً بِعْثَتَهُ كلها :
(( إنما بعثت معلماً ))
(( إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))
كأن هناك يا أيها الإخوة المؤمنون ترابطٌ وجودي بين الأخلاق والعبادات ، فلو أن الأخلاق ضَعُفَت ضعف الإيمان ، ولو أن الأخلاق قويَت قوي الإيمان ، هذا الترابط الوجودي عبَّر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله صلى الله عليه وسلَّم :
(( بني الإسلام على خمس ـ هذه الخمس ـ شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ))
هذه دعائم الإسلام ، فالإسلام شيءٌ آخر ، هو هذا البناء الأخلاقي ، هو هذا السموّ النفسيّ ، هو هذا النظام الاجتماعيّ ، هو هذه القيَم السائدة ، لذلك مما يؤكِّد أن هناك ترابطاً وجودياً بين الأخلاق وبين الإيمان قول النبي العدنان عليه الصلاة والسلام :
(( الحياء والإيمان قُرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ))
ليس هناك مؤمنٌ وقح ، ليس هناك مؤمنٌ لا يستحيي .
(( الحياء والإيمان قُرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري :
(( واللهِ لا يؤمن ، واللهِ لا يؤمن ، واللهِ لا يؤمن ، قيل : يا رسول الله من هو ؟! قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ))
هذا الذي يخشى مِن جاره أن يُفْسِد عليه ، هذا الذي يخشى مِن جاره أن يسبب له الأذى ، هذا الذي يخشى مِن جاره أن يفعل ويترك واللهِ ما آمن ، واللهِ ما آمن ، واللهِ ما آمن مَن كان يسعى لإيقاع الأذى في جاره .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الشيء الملاحظ أن المنتسبين إلى الدين ، لا أقول : الديِّنين ، بل المنتسبين إلى الدين ، هؤلاء يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ، ويُظْهِرون الحرص عليها حرصاً بالغاً ، لكنهم يرتكبون أعمالاً يأباها الخُلُق الكريم ، لمثل هؤلاء قال عليه الصلاة والسلام :
سئل عليه الصلاة والسلام أن فلانة تذكر من كثرة صيامها ، وصلاتها ، وصدقتها .
تذكر أي تقول : أنا أصلي قيام الليل ، أنا أصلي صلاة الأوّابين ، أنا أصلي الضحى ، أنا أصلي نفلاً ، أنا أصلي صلاة التهجُّد .
إن فلانة تذكر من كثرة صيامها ، وصلاتها ، وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( هي في النار ))
سئل سؤالاً آخر :
إن فلانة تذكر من قلَّة صلاتها ـ أي لا تصلي النوافل ، تكتفي بالفرائض ـ وأنها تتصدَّق بالأثوار من الإقط ـ أي الجبن ـ ولا تؤذي جيرانها بلسانها ، قال :
(( هي في الجنة ))
إذاً العبادات ترابطها مع الأخلاق ترابطٌ وجودي ، فإذا انهارت الأخلاق فلا قيمة للعبادات ، والذي جعل المسلمين في آخر الرَكْب أنهم فهموا العبادات طقوساً يؤدونها وانتهى الأمر ، ثم ينغمسون في شهواتهم.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ لمثل هؤلاء الذين ينتسبون إلى الدين ، ويستسهلون أداء العبادات ، ويُظْهرون الحرص عليها ، ويرتكبون أعمالاً يندى لها الجَبين ، يرتكبون أعمالاً يأباها الخُلُق الكريم ، لمثل هؤلاء أسوق لهم هذا الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه :
(( سأل النبي عليه الصلاة والسلام : أتدرون مَن المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع . قال : لا . المفلس مِن أمتي مِن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ ، وزكاةٍ ، وصيامٍ ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا مِن حسناته ، وهذا مِن حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ مِن خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرِحَ في النار ))
هذا هو المفلس ، الذي يأتي وقد صلَّى وصام وحجَّ وزكَّى ، ولكنه شتم ، واغتاب ، واغتصب ، وفعل ، وترك ، وآذى ، هذا هو المفلس ، من يملك ألف ليرة وعليه ألفان أليس مُفْلِساً ؟
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روى البَيْهَقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن :
(( الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد ، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ))
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري :
(( ثلاثٌ مَن كنَّ فيه فهو منافق وإن صام ـ اسمعوا ، ودققوا ـ وصلى ، وحجَّ ، واعتمر ، وقال : إني مسلم ؛ إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ))
فالإسلام بناءٌ أخلاقي ، دعائمه العبادات ، فما قيمة هذه الدعائم إن لم يكن هذا البناء ؟ إنها دعائم بناء لا قيمة في ذاتها ، قيمتها في أنها دعائم لهذا البناء ، فإذا لم يكن البناء فلا غناء في الدعائم .
الدين هو الخلق :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ دققوا في هذه القصة ، كيف فهم أصحاب رسول الله الخُلُق على أنه هو الدين ؟ وأن العبادات في خدمته ؟ روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجلٌ فسَّلم عليه ثم جلس ، فقال له ابن عباس :
ـ يا فلان أراك مكتئباً حزيناً .
قال : نعم يا ابن عم رسول الله ، لفلانٍ عليَّ حقٌ ـ أي دَينٌ ـ وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر على وفائه .
فقال ابن عباس ـ ألا أكلِّمه فيك ؟
فقال له الرجل : إن شئت ، إن أحببت .
فانتعل ابن عباسٍ نعليه ثم خرج مِن المسجد ـ هو معتكف ـ قطع اعتكافه ، ألغى اعتكافه ، فانتعل نعليه ثم خرج من المسجد ، فقال له رجل : أنسيت ما كنت فيه ؟! فقال : لا ، ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب ، فدمعت عيناه وهو يقول : من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين .
لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( واللهِ لأن أمشي مع أخٍ مؤمنٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا ))
هذه العبادات أيها الإخوة مِن أجل القُرُبات ، مِن أجل الأعمال الصالحة ، مِن أجل الانضباط ، مِن أجل الخُلُق الكريم ، ولا قيمة لها في ذاتها .
الموضوع الفقهي : الحنث باليمين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الموضوع الفقهي القصير كما وعدتكم به : الحنث في اليمين يكون بفعل ما حلفت على تركه ، وترك ما حلفت على فعله ، حلفت أن تفعل كذا وكذا فلم تفعل فقد حنثت ، حلفت ألا تفعل كذا وقد فعلت ، فقد حنثت ، ومَن حلف ألا يفعل شيئاً ففعله ناسياً ، أو خطأً فإنه لا يحنث ، ولا يلزم ـ كما قال ثلاث علماءٍ كبار مِن العلماء الأربع ـ ولا يلزم الوفاء باليمين التي يكره عليها المرء ، ولا يأثم إذا حنث لأن المكره مسلوب الإرادة ، وسلب الإرادة يسقط التكليف ، الدليل قول الله عزَّ وجل :
﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :
(( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))
مَن حلف ألا يفعل وفعل ناسياً أو خطأً ، ومَن استكره على فِعْل ما حلف ألا يفعله ، لا يحنث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))
حكمٌ آخر : من حلف فقال : إن شاء الله ، قالوا : هذا استثنى ، من حلف فقال : إن شاء الله ، واللهِ سأفعل كذا إن شاء الله ، والله لا أفعل هذا إن شاء الله ، ما دام قد قال إن شاء الله فقد استثنى ، ومَن استثنى فلا يحنث .
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال :
(( من حلف على يمينٍ فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه ))
فأي يمين تحلفه إذا قلت : إن شاء الله . لا تحنث لأنك استثنيت .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الدم :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ما منا رجلٌ ، أو امرأةٌ ، صغيرٌ ، أو كبيرٌ ، إلا وفي شرايينه وأوردته دمٌ يجري ، وقد لا يعرف الإنسان ما هذا الدم ، وما تركيبه ، وما حجمه ، وما أسراره ؟ فإذا عرف شيئاً عن حقيقة الدم الذي يجري في عروقه ، خشع قلبه ، وخرَّ لله ساجداً .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ مَن منّا يصدق ، أن في جسم كلٍ منا ما يزيد عن خمسٍ وعشرين مليون مليون كريةٍ حمراء ، في دمائنا ، في شراييننا ، بأوردتنا ، ما يزيد عن خمسة وعشرين مليون مليون كرية حمراء ، وأن تعداد الكريات في الميليمتر واحد مكعّب ، لا يقلُّ عن خمسة ملايين ، أمسك مسطرةً ، أصغر تدريج عليها ، هو الميليمتر ، ميليمتر مكعب ، طول وعرض وارتفاع ، في هذا الحجم الضَئيل الضئيل ، ما يزيد عن خمسة ملايين كرية حمراء .
يَصِفون الكرية الحمراء ، بأنها حمَّالٌ لا يعرف التعب ، تحمل الأكسيجين إلى الخلايا ، والأنسجة ، والأجهزة ، والأعضاء ، وكل مكانٍ في الإنسان ، وتعود بنتائج الاحتراق ، تطرح غاز الفحم في النَفَس ، هي حمالٌ لا يعرف التعب ، ولا الكلل ، ولا السأم ، تجول هذه الكريات في الجسم ، ألفاً وخمسمئة جولةً في اليوم الواحد ، تجول كل كرية في الجسم ألفاً وخمسمئة جولةً في اليوم الواحد .
وعمر هذه الكرية ، يزيد عن مئةٍ وعشرين يوماً ، وبعدها تموت ، تقطع في هذا العمر ما يزيد عن ألفٍ ومئةٍ وخمسين كيلو متر ، في الإنسان ، وتنقل ما يزيد عن ستمئة لتر مِن الأوكسجين ، الكرية الواحدة .
أيها الإخوة الأكارم ؛ لو بحثنا في تكوين هذه الكرية الحمراء ، لوجدناها مكونةً من خمسمئةٍ وأربعٍ وسبعين حمضاً أمينياً ، وأنه يتم صنعها في خمسة أيامٍ ، أو أقل مِن ذلك ، وتُصْنَع في معامل ، هي نَقِي العظام ، فجوف العظم هو المعمل الذي ينتج الكريات الحمراء ، مَن منا يصدق أن المعمل يصنع في الثانية الواحدة مليونين ونصف كرية حمراء، في كل ثانية ، وأن أنشط المعامل ، العمود الفقري ، ثم عظام الأضلاع ، ثم عظم القفص الصدري الرئيسي ، وبعدها تأتي المعامل في نقي العظام ، عظام الأطراف .
وأن الله سبحانه وتعالى ، زوَّد الجسم بمعامل احتياطية ، هي الكبد والطحال ، فإذا تعطَّلت المعامل الأساسية ، عملت الكبد والطحال ، على إنتاج الكريات الحمراء .
شيءٌ مهمٌ جداً ؛ هو أن في الكليتين ، مركزاً لتعيير الدم ، فإذا نقص الدم عن حدِّه الطبيعي ، أرسل هذا المركز أوامر هرمونية ، إلى مصانع الدم ، تحثُّه فيه على زيادة الإنتاج ، وإذا زاد الدم عن حدّه الطبيعي ، أرسل هذا المركز الذي في الكليتين أوامر هرمونية ، إلى معامل الكريات ، تأمره فيها بالبُطء في الإنتاج ، لذلك هناك علاقة بين الضغط ، وبين التهاب الكليتين ، ما علاقة الكليتين بارتفاع الضغط ؟ لأن في الكليتين مركزاً بالغ الحساسية ، يراقب كمية الدم باستمرار .
لذلك إذا أُخِذَ الدم عن طريق الحجامة ، نقص الدم في الشرايين ، ونقصه في الشرايين يجعل مركز تعيير الدم ، يأمر معامل الدم ، بتصنيع كميةٍ زائدة ، وبهذا تنشط المعامل ، ويصبح عملها جيداً على مدار العمر الذي يحياه الإنسان .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مَن نظَّم هذا النظام ؟ مَن صمم هذا الخَلْق ؟ مَن رتَّب هذا الترتيب ؟ ألا يستحق العبادة ؟ ألا يستحق أن يطاع ؟ ألا يجب أن نخشاه ؟ ألا يجب أن نتقيه ؟
أيها الإخوة الأكارم ، قال تعالى :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
خمسة وعشرين مليون مليون كرية ، تعيش الواحدة مئةً وعشرين يوماً ، تقطع ألفاً ومئةٍ وخمسين كيلو متراً ، في هذا العمر ، تنقل ستمئة لتر من الأوكسجين ، تعمل بلا كللٍ ، ولا تعبٍ ، ولا سأم ، هذه الكريات، كائناتٌ ، قالوا : قطرها سبع ميكرونات .
أيها الإخوة الأكارم ؛ وهذا الجهاز جهاز تعيير الدم ، يعمل بمراقبة الدم بشكلٍ مستمر ، وهو بالغ الحساسية ، كلّما نقصت كمية الدم، يعطي أمراً هرمونياً إلى المعامل ، بزيادة الإنتاج ، وكلما زاد الدم عن حدِّه الطبيعي ، أعطى أمراً بتقليل الإنتاج ، مِن أجل أن تبقى كمية الدم ، في الشرايين ثابتة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ موضوع الدم ، لا ينتهي بدقائق ، ولا بخُطَب ، ولا بسنوات ، مجلداتٌ كبيرة ، كبيرةٌ كبيرة ، أُلِّفت حول الدم فقط، ، حتى أن هناك اختصاصاً في الطب ، مختصٌ بأمراض الدم .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين .
اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .